جوردن ديلي – عانى الفيلسوف الفرنسي “دينيس ديدرو” من ضائقة مالية عام 1760، واشتدت عليه الضائقة مع مرور السنوات، ومع عدم وجود مصدر رزق له غير مسرحياته وكتاباته الفلسفية أصبح شبه مفلس في عام 1765.
وانتشلته إمبراطورة روسيا “كاثرين”، التي كانت من كبار المعجبين بأعماله، من الفوضى المالية التي عاناها بشرائها مكتبته وتعيينه بها، وإمداده براتب شهري ما بقي على قيد الحياة، ليتحول من شخص يعاني العوز إلى آخر لديه قدر جيد من المال.
حسرة التخلص من الثوب القديم
ويقول “ديدرو” إنه فور امتلاكه للمال قام بشراء ثوب جديد ليصبح ملائما له ولوضعه الجديد، ثم اشترى أريكة جديدة لتصبح ملائمة للثوب الجديد، ثم مكتبة، وهكذا حتى انخرط في “حمى شراء” أطاحت بالأموال التي حصل عليها من الإمبراطورة، بل وعاد للاقتراض ليحصل على الجديد أيضا.
وبعد سنوات ومع تكرار الكثيرين لسلوك “ديدرو”، قرر علماء علم النفس والاقتصاد السلوكي أن يسموا الظاهرة التي تعبر عن نمط استهلاكي متصاعد بحيث يتخطى الشخص قدرته الطبيعية على الإنفاق بـ”تأثير ديدرو”، لا سيما بعد أن قال “ديدرو” إنه شعر بـ”الحسرة” على مفارقة ثوبه القديم لما في ذلك من تأثيرات سلبية لاحقة على حياته.
ويمكن القول إن الحصول على “ثروة مفاجئة” يصيب الكثيرين بحالة من عدم الاتزان أو اللوثة بشكل عام، وليس أدل على ذلك أن نسب الحفاظ على الثروة تقل بشكل حاد، حوالي 80%، بين الجيل الثاني من العائلات الثرية، نظرًا لحصولهم على الأموال عن طريق الميراث وليس العمل أو الاستثمار.
المتداولون وتأثير “ديدرو”
وفي سوق الأسهم يمكن النظر إلى هؤلاء الذين يتعاملون مع ثروات ورثوها أو حتى صنعوها بأنفسهم لكنها تعتبر بالنسبة إليهم “فوائض مالية”، وهم يمثلون نسبة تزيد على 50% من السوق الأمريكي ،وفقًا لبعض الدراسات بينما تضعهم دراسات أخرى بين 40-65% بمثابة خير تعبير عن هذا التأثير في الاستثمار في الأسهم وآثاره عليهم وعلى السوق.
فهؤلاء يتعاملون بمنطق “المغامرة” وليس الاستثمار، ولديهم استعداد استثنائي لتقبل الخسارة، وهذا خلاف لبعض المستثمرين الذين يؤذيهم خوفهم المبالغ فيه من الخسارة، بما يدفعهم للاستثمار بلا خطة بل بعشوائية تامة تجعلهم يخسرون أموالهم غالبًا ويلحقون الضرر بسوق الأسهم ايضا.
ومن تأثير الفوائض المالية الضار على السوق ما يحذر منه “ميشيل هارتنت” المحلل المالي في بنك “أوف أمريكا” في السوق الأمريكي مما سماه “استمرار تأثيرات المبتدئين” على السوق الأمريكي وتقييمه أن الركود مع ارتفاع فوائد السندات الأمريكية فوق 4% سيجعل فقاعة سوق الأسهم الأمريكية وتحديدًا شركات التكنولوجيا تنكشف وستقضي على بواقي الأموال المغامرة التي دخلت السوق في فترة انتشار فيروس “كورونا”.
ولا شك أن قطاع الأسهم التكنولوجية خاصة يعد جاذبًا للغاية لتأثير “ديدرو”، حيث إن الكثير من أسهمها تشهد صعودًا سريعًا في فترات قصيرة في كثير من الأحيان، بما يجعل القطاع جذابًا للمزيد من الشراء، بمنطق متوالية الدومينو في تأثير ديدرو وأيضا بمنطق انحياز المطرقة الذهبية (أي استخدام الشخص لمطرقة لكي يتخلص من مسمار يؤذي الناس فيعتبر أن حل مشاكله كلها يكمن في استخدام المطارق).
مكاسب أولا.. ثم خسائر
وهناك جانب آخر تغطيه الظاهرة وهو الإنفاق الاستهلاكي المتصاعد كما حدث لـ”ديدرو”، وفي سوق الأسهم تحدث الظاهرة بشكل مشابه، حيث كثيرًا ما يربح المتداولون في دخولهم الأول إلى السوق، لأن ما يجذبهم قد يكون اكتتابا ذا فرص نجاح كبيرة أو سهما يحظى بإجماع في السوق.
ولكن هذا “النجاح الأولي” كثيرًا ما يكون قصير المدى بسبب “تأثير ديدرو”، ففي عالم الاستهلاك تقدر الدراسات أن ثلثي المستهلكين (66%) يقعون ضحية التأثير، وعلى الرغم من أنه يفترض بالاستثمار أن يكون أكثر عقلانية فإن أكثر من 75% من المتداولين في سوق الأسهم يقعون فريسة لمبدأ “ديدرو” بشكل مختلف.
فبعد تجربة أولى ناجحة في سوق الأسهم، عادة ما يقدم الأشخاص على التوسع في شراء الأسهم، وبدراسة أقل من المرة الأولى التي دخلوا فيها الأسهم، وذلك لاعتقاد غالبيتهم، بأنهم راكموا خبرة جيدة، فقط باستثمار واحد ناجح، ولذا ليسوا بحاجة للدراسة بنفس التفاصيل ويتخذون قرارهم الاستثماري بسرعة أكبر وبدراسة أقل.
ولذلك تشير الدراسات إلى أن 90% من المنخرطين في سوق الأسهم الأمريكية يخسرون، مع أن أكثر من ثلثي الصفقات الأولى في السوق تكون ناجحة، بما يوحي بأن الاستمرار في السوق قد يتم بقواعد مختلفة عن تلك التي تم البدء بناء عليها، وبالتالي تتقلص نسب النجاح في السوق كثيرًا.
الوكلاء مثل التجار
ولعل هذا يعكس ما يقوله المستثمر الشهير في عالم الأسهم “وارين بافيت” بأن كثيرًا ما يكون النجاح أسوأ مستشار في سوق الأسهم لأنه يقود المستثمر للاعتقاد بأسباب خاطئة أحيانا وراء نجاحه ومن ثم يتوسع في الاستثمارات بلا حساب اعتقادًا منه في تحقيق النجاح كل مرة.
ويرتبط هذا بشكل كبير أيضا بـ”الشعور” الذي يخلفه الشراء أو الربح على حد سواء، حيث تشير الدراسات إلى زيادة إفراز هرمون “الدوبامين” الذي يتسبب في السعادة عند الربح لدى الكثير من المتعاملين في السوق، وكذلك أثناء التسوق، ولا شك أن هذا يؤثر على رجاحة اتخاذ القرار لدى كليهما بعد أول عملية أول صفقة شراء أسهم ناجحة، أو بعد أول عملية تسوق شرائية.
وفي نفس الإطار كثيرًا ما يصاب المستثمرون بتأثير ما يعرف بـ”الثلاثة أيام”، حيث إن ثلاثة أيام متتالية من الخسائر قد تدفع الشخص لبيع سهم سيرتفع لاحقًا، وفي المقابل فإن ارتفاع السهم قد يؤدي بالشخص للاحتفاظ بسهم شركة سيتراجع أو حتى بشراء المزيد من أسهم هذه الشركة، في 80% من الحالات، وهو ما يشبه قيام “ديدرو” بشراء الثوب أولًا ثم التوسع في السلوك الإنفاقي بلا حساب.
والشاهد هنا أنه يجب التنبه إلى أن وكلاء الأسهم كثيرًا ما يعملون، مثل البائعين، على استغلال تأثير “ديدرو” بأن يقترحوا أسهمًا جديدة لمن يمثلونهم ليبقيه في السوق باستمرار، مثلما يفعل البائعون في محال الوجبات الجاهزة عندما يسألون من يشتري ساندوتش إذا كان بحاجة إلى البطاطس أو المياه الغازية وبذلك يزيد المبيعات بنسبة تتراوح بين 33-40%.
والشاهد ايضا أن الاندفاع في الشراء له آثار سلبية قد لا يدركها بعض المستثمرين إلا متأخرًا، وعلى رأسها أن قرابة 55% من المستثمرين في السوق الأمريكية يقولون إنهم كثيرًا ما افتقدوا إلى الأموال السائلة التي يمكنهم استخدامها في شراء بعض الأسهم التي يقودها تحليلهم إلى أنها تشكل فرصة استثمارية جيدة.
ومثلما يضرب المثل في “تأثير ديدرو” الاستهلاكي بأنك إذا كنت بحاجة إلى بذلة جديدة فإنه يمكنك استخدام قميص مما لديك دون شراء آخر جديد، وكمستثمر قد لا تكون بحاجة لشراء كافة الأسهم التي تُقترح عليك، ولو حتى بغرض التنويع ولكن الاختيار الدقيق لقرارات الشراء.