ارآء

من وحي المئوية (22) أُخوّة البنك المركزي

الدكتور جواد العناني 

جوردن ديلي – يمرّ على الانسان عبر حياته أناس كثيرون، ومنهم من يصبح الصديق وآخرون ينسلون من فضاءاتك إلى حيث لا تدري، فيطويهم النسيان. وأحداث تمر في مجرى أيامك فيترك بعضها أثراً لا ينمحي، وبعضها يغوص في مخزون الذاكرة العميق، إلى أن تتذكرها وقد علقت خيوط العنكبوت حولها، فتمسح عنها الغبرة والشعشبون، وترى منها ملامح لا تكاد تميز منها شيئاً.

احتفلت يوم الثامن والعشرين من شهر حزيران بعيد ميلادي الثامن والسبعين. وقد صادف يوم ميلادي نفس اليوم الذي ولد فيه صاحب السمو الملكي الأمير الحسين بن عبدالله الثاني ولي العهد، مع فارق واحد وخمسين عاماً، وصادف في نفس الشهر أو الخامس عشر منه، أن كان عيد ميلاد الدكتور زياد فريز الثامن والسبعين، وقد دعانا الدكتور أديب حداد زميلنا في البنك المركزي لكي نتناول عنده طعام العشاء، ونجلس جلستنا الشهرية المعتادة، نتسلى، ونتحدث، ونتذكر الأيام الخوالي. واجتماعنا هذا الذي بدأ قبل نصف قرن وأكثر يضم زمرة منا ما يزال أكثرهم على قيد الحياة، وهم معالي محمد صالح الحوراني، وعطوفة د. صفوان طوقان، وعطوفة السيد سعيد حمامي، وعطوفة الدكتور عدنان الهندي، هذا عدا عن معالي د. زياد فريز، وعطوفة د. أديب حداد.

وقد كنا سابقاً أكثر من ذلك. فقد كان الراحل معالي الدكتور محمد مهدي الفرحان زميلاً وصديقاً مواظباً، وكذلك كان معالي د. بسام الساكت الذي ألهته الحياة ومصائدها فصار يغيب عن تلك الجلسات الشهرية. والآخر هو سعادة الدكتور عبدالله المالكي الذي ربما أقعده التهاؤه بكتابة الكتب والروايات المحكمة والتي كان آخر ما قرأته منها قصته عن فلسطين بعنوان «العبور الكبير».

صدر قانون البنك المركزي عام 1964 بعد سنتين من العمل والنقاش والاعداد، حيث ساهم الراحل معالي الدكتور خليل السالم في ذلك الانجاز بتوجيه ملكي سامٍ، علماً بأن المبادرة بدأت أيام حكومة المرحوم وصفي التل الأولى. وبدأ البنك المركزي أعماله في عمارة الراحل عاكف الفايز في شارع الشابسوغ، حيث سكنت شركة الطيران عالية في نفس المبنى. وقد صدرت الإرادة الملكية بتعيين الدكتور خليل السالم محافظاً، والمرحوم عطوفة عبدالكريم الحمود العربيات نائباً للمحافظ. وأُلحقت بالبنك دائرتان: هما دائرة العملة، ومجلس النقد الأردني وأنيطت بالبنك مهام مراقبة البنوك، وإدارة المخزون الاحتياطي للمملكة، والحفاظ على ثبات سعر الصرف، والعمل كبنك للبنوك، وكمستشار للحكومة ووكيل مالي لها، وممارسة وسائل إدارة النقد مثل أسعار الفائدة، وسعر الخصم واعادة الخصم، واجراء الدراسات المالية والاقتصادية للحكومة.

وكان من أوائل من عينوا في البنك كل من معالي الدكتور تيسير عبدالجابر، ومعالي د. ميشيل مارتو، والدكتور عدنان الهندي عام 1964. وقد قام البنك بارسالهم فوراً في بعثات إلى الولايات المتحدة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراة. أما نحن الذين عُينا في البنك بعد ذلك، فقد كان المفروض أن نعمل لمدة عامين قبل أن نسافر للحصول على الدرجات العليا.

ولما تخرجت من الجامعة الأميركية بالقاهرة قررت ألا أعمل إلا في واحد من مكانين هما الجامعة الأردنية معيداً، والبنك المركزي. وقد تيسرت لي فرصة العمل في البنك باحثاً اقتصادياً. وعملت في قسم الاقتصاد الخارجي. وكان مدير الدائرة أيامها المرحوم نعمان الفاخوري (أبو زهير)، أما مديرة القسم فكانت معالي السيدة تمام الغول. ولما عرض علي الجلوس في مكتب طلبت أنْ أجلس مع ثلاثة من خريجي الثانوية التجارية، والذين كانت مهمتهم الأساسية تحضير الجداول الاحصائية الصادرة عن البنك. وكان أعقد جدولين تحضيراً هما جدول عرض النقد والمؤثرات عليه، وجدول ميزان المدفوعات الذي يظهر حصيلة تعاملات الأردن مع العالم الخارجي.

وقد مكثت مع الزملاء أكثر من سنه تعلمت منهم خلالها تحضير كل الجداول. وكان أمتعها تحضيراً جدول تصنيف الصادرات والواردات حسب التصنيف الدولي القياسي للسلع، مثل المواد الغذائية، المواد الخام، السلع الرأسمالية، سلع النقل وغيرها من الأبواب. والمعضلة كانت أن الجدول الذي كان يأتينا من دائرة الاحصاءات العامة كان يدونها حَسّب أرقامها المتفق عليها دولياً. ولذلك كنا نجلس أياماً ونحن نصنف كل بند ونجمعه على الآلة الحاسبة. ولما نصل إلى الرقم الاجمالي نجد أنه يختلف عن الرقم الاجمالي للصادرات أو المستوردات الوارد من دائرة الاحصاءات العامة. وقد تبين لنا أن الفرق بين الرقم الذي وصلنا إليه والرقم من دائرة الاحصاءات كان يقسم على (9) ويعطي رقماً صحيحاً. والسبب أن كتابة بعض الأرقام على الآلة الحاسبة كانت تعكس. فالرقم (53) يكتب (35)، والفرق بينهما (18)، ويقسم على تسعه، وهلم جرا.

وقد اضطررنا في إحدى السنوات أن نعيد تصنيف الأرقام الواردة من الاحصاءات والبالغة (450) صفحة من القطع الكبير ثلاث مرات، ويبقى الفرق في الرقم مع رقم الدائرة كما هو. وقررنا أن نجمع أرقام دائرة الاحصاءات ونراجعها عدة مرات حتى تأكدنا أن رقمنا صحيح، وأن الدائرة قد أخطأت في جمع أرقام المستوردات.

هكذا كنا نتعلم. ولما انتقلنا عام 1968 إلى مبنى البنك الحالي، التحقت بقسم التجارة الخارجية برئاسة الدكتور زياد فريز. وطلب مني أن أجري تمريناً لكي نقدر حجم القرض السهل الذي نستحق من صندوق النقد الدولي بسبب تراجع الصادرات الأردنية لظروف خارجة عن إرادتتا. وكان الصندوق يمنح هذه القروض بموجب وسيلة سماها وسيلة التمويل التعويضي. كان المحافظ د. السالم يريد السفر يوم الجمعة إلى واشنطن حيث مقرالصندوق، وأراد أن يعرف حجم القروض قبل سفره. وبقيت أعمل على استخراج المعادلة حتى وجدتها، وطبقتها على بعض الدول فوجدت أنها أعطتنا اجابات صحيحة. وطبقتها على الأردن فتبين أن حجم القرض الذي يمكن أن تحصل عليه سيكون في حدود (4.6) مليون دولار. وهو رقم مهم في ذلك الوقت.

وناداني الدكتور السالم، وكأستاذ تقليدي من أيام زمان، وكشخص مختص في الرياضيات، لم يكن يريدني أن أشرح له. فقال لي بنبرته الفريدة وسيجارته التي لا تفارق شفتيه «ولك شو هاذ اللي عامله حضرتك.. شو هالتخبيص؟» وكان ذلك الأسلوب مشابهاً لاسلوب والدي. فقلت له وأنا ارتجف «لن أشرح لك ما عملته». فسألني إن كنت مجنوناً، فقلت «أنت تريدني أن أشرح لك ما تعبت على انجازه يوماً كاملاً مدافعاً عن نفسي، ثم تدعي أنك أستاذي في العملية» فنظر إلي وهو يكتم غيظه ثم قال «طيب اشرح لي يا فصيح». فلما شرحت له قال «المية ستكذب الغطاس». ولما عاد من زيارته من واشنطن. وتبين له ان الرقم الذي اعطيته اياه كان صحيحاً. أرسل في الملف الدوار نسخة عن المذكرة التي كتبتها له قبل سفره وقد كتب عليها مخاطباً المدراء ورؤساء الاقسام في دوائر البنك «هذه افضل مذكرة قرأتها وأرجو تعميمها على كل الموظفين ليتعلموا كيف تكتب المذكرات بأسلوب علمي وموجز ومحقق للتتائج». ولا تسألوا عن فرحتي.

ولما كان عام 1969. تقدمت لامتحان «توفل» الاميركي مع الدكتور شبيب عماري وهو امتحان لابد من اجتيازه في ذلك الوقت بعلامة لا تقل عن 500 لكي تقبل في جامعة أميركية. وقد نجح كلانا في الامتحان وأحدنا اخذ علامة بفارق عن الآخر. وسافر هو الى جامعة جنوب كاليفورنيا. وسافرت انا بمعية زميلين آخرين هما د.صفوان طوقان ود.رفيق عمر الى ولايه كولورادو لنمضي فيها شهرين قبل ان يلتحق كل منا بجامعته. وقد انهيت الماجستير بجامعة فاندربيلت (احدى جامعات جنوب الولايات المتحده) في (11) شهراً ومنحتني الجامعة بعثة لاكمل الدكتوراة. ولكن اهلي فقدوا عام 1970 في احداث أيلول، وتركوا منزلنا على الدوار الثاني بجبل عمان لان البيت كان يتلقى الرصاص من غرب عمان وشرقها. واكتشفت بعد شهر ونيف عندما وصلتني رسالة من ابي يقول لي فيها إن أخي المرحوم عزام قد اخذهم الى بيروت حيث كان يدرس اخي د.بسام الهندسة بالجامعه الاميركية هناك.

وبسبب القلق على اهلي، تركت الجامعة، ولما أطمأننت عليهم قررت ان اقوم بجولة في الولايات المتحدة. وقد امضيت ثلاثة أشهر بسيارة فولكس فاجن صغيرة وزرت اكثر من (40) ولاية، ولم انفق من جيبي الخاص الا مائة وخمسين دولاراً وقد كنت اعمل طوال الطريق في المطاعم، ومحطات البنزين. ولكني تعلمت كثيرا عن حياة اميركا واخلاقيات أهلها في العمل وزرت الجامعات والمتنزهات والأماكن التاريخية واكسبتني الرحلة ثقة عظيمة بنفسي.

وعدت الى عمان الى الأصحاب، والذين لاموني على عودتي الى عمان، فقلت لهم لقد زهدت في الدكتوراه، إذ ليس لي منها منفعة. ولكن دكتور خليل السالم الذي ارسل كل زملائي عام 1971/ 1972 في بعثات الى الخارج مثل د.بسام الساكت، د. زياد فريز، د. مهدي الفرحان، ود. اديب حداد، د. عدنان الهندي، والمرحوم د. زهير خليفة ود. جمال صلاح، وغيرهم، ناداني وطلب مني ان اقدم طلبات للجامعات الاميركية لأحصل على الدكتوراة.

وفي عام 1971/ 1972 افتتح البنك المركزي معهد الدراسات المصرفية من اجل اعطاء فرصة لموظفي البنوك ذوي الخبرة والمقدرة والذين زاولوا مهنة المصارف بعد حصولهم على الثانوية لكي يحصلوا على دبلوم الدراسات الجامعية المتوسط، وليعمق فهمهم الفكري والنظري لما يطبقونه عملياً. وقد كان معدل اعمار الطلاب الذين دخلوا المعهد في السنة الاولى حوالي أربعين عاماً. أما أنا فقد كان عمري انذاك (26) عاما وقد وكلت من البنك المركزي بتدريس طلاب المعهد مادة «الاقتصاد الدولي» ولما ذهبت لكي أُدرس سألني الطلاب من أي بنك أنت فقلت لهم من البنك المركزي فقالوا وماذا تفعل هنا انت طالب صغير بعد. فقلت لهم لا انا لست طالباً انا استاذ المادة، فضحكوا ومنعوني من دخول الصف. فقلت لهم امنحوني عشر دقائق فقط لكي اشرح شيئاً من المادة ثم قرروا اذا كنت أستاذاً ام لا؟ فوافقوا على مضض لانني قلت لهم اسمي وهو مطابق لاسم استاذ المادة. وسالتهم «لماذا يشتري الايطالي سيارة رينو، ويشتري الفرنسي سيارة فيات» وقد صرنا بعد ذلك اصحاباً.

وفي عام 1973 غادرت الى الولايات المتحده لاكمل الدكتوراة. وحصلت عليها في سنه ونصف السنة من جامعة جورجيا التي كان ترتيبها الثالثة من حيث الدراسات المالية وكتبت رسالة دكتوراة اعتمدتُ على استخدام الكمبيوتر بشكل موسع. وعدت قبل كل زملائي الاخرين لأتولى منصب رئيس دائره الابحاث الاقتصادية.

البنك المركزي مدرسة خرجت رؤساء وزارات (طاهر المصري) ووزراء (سعيد النابلسي، جواد العناني، زياد فريز، بسام الساكت، تيسير عبدالجابر، ومهدي الفرحان، باسل جردانه، وميشيل مارتو، محمد أبو حمور، محمد صالح الحوراني، أمية طوقان، وحمد الكساسبة، وتيسير الصمادي وغيرهم. ووكلاء وزارات ومدراء دوائر باعداد كبيرة.

ما نزال نحن الصحبة القديمة نعود لنجتمع، ونتذكر أيامنا الخوالي وما مر به البنك المركزي من تقلبات. ففي عام 1967 وحده اضطررنا ان نعالج آثار الاحتلال، ونقل الودائع من الضفة الغربية واعادتها لأصحابها، واثار سقوط بنك انترا الذي كان له فروع عدة في الاردن، وهبوط الجنيه الاسترليني الذي كان يشكل جزءا مهما من أرصدتنا الاجنبية. وواجهنا ازمات بعض البنوك وكذلك مأساة بنك البتراء وبنك الاردن والخليج وانشأنا مؤسسات مثل سوق عمان المالي وبنك الاسكان وقمنا بإدارة أزمة المديونية الشرسة في التسعينات.

لقد عمل في البنك رجال ونساء لهم بصمة واضحة على الاقتصاد الاردني ورغم التنافس فيما بيننا، إلا اننا لم نضمر البغضاء لبعضنا البعض ولم يكن بيننا فاسدون، ولا متسلقون، تعاونا وأنجزنا وما نزال بعد (55) عاماً نلتقي مع بعضنا البعض على العهد والحب والوفاء. وبقدر ما دارت بنا المناصب يبقى البنك المركزي مربط خيلنا.

الرأي

Check Also
Close
Back to top button