جوردن ديلي – في عام 1973 قدم الكاتب “بورتون مالكيل” أحد أشد الكتب إثارة للجدل في الولايات المتحدة تحت عنوان “السير عشوائيًا في وول ستريت”، مدعيًا أن سوق الأسهم بلا رابط أو ضابط وأنه يستحيل التنبؤ باتجاه سوق الأسهم؛ بسبب نظريته حول “المشي العشوائي”، والتي جاءت كتطويع لنظريات رياضية ظهرت قبل قرن ونصف في فرنسا في عالم الأسهم.
وتناقضت تلك النظرية بشدة مع النظرية السائدة آنذاك وتدور حول أن الأسواق “فعالة” وتستجيب بشكل متناسب مع التغيرات سواء كانت على مستوى الاقتصاد ككل أو أحد قطاعاته أو حتى على مستوى أداء الشركة السابق أو توقعات أدائها لاحقًا.
وشبه “مالكيل” العمل في سوق الأسهم وقتها بمجموعة من القرود يرمون السهام على لوحة رمي السهام (ترتفع الدرجة المتحصل عليها كلما اقتربت من المركز وتختلف باختلاف القطاع الذي يصيبه السهم)، وبالطبع ستصبح النتيجة التي تظهر هنا عشوائية بالكامل ويستحيل التنبؤ بها.
وقال “مالكيل” إن ما يؤكد رأيه أن 80-90% من المتعاملين في سوق الأسهم يخسرون أموالهم، ولو كان الأمر يحمل علمًا لما كانت نسبة الفشل كبيرة إلى هذا الحد، وعندما يكون الأمر غير خاضع للعلم ويكون عدد المتغيرات كبيرًا للغاية ومستقل إلى درجة كبيرة يكون التنبؤ مستحيلًا والعشوائية هي النتيجة الحتمية.
ووقعت التجربة العملية الأبرز على افتراضات “مالكيل” عام 1988 عندما سعت صحيفة “وول ستريت جورنال” لاختبار فرضيته من خلال عقد مقارنة بين أداء محرريها في سوق الأسهم وأداء المحترفين في السوق لتأتي النتائج مثيرة للجدل.
ففي 142 تنافس (رهان على ارتفاع الأسهم أو انخفاضها لفترة معينة) بين الخبراء والمحررين (والذين يقومون هنا بدور القردة التي ترمي السهام بلا تمييز)، فاز الخبراء في 87 مسابقة وفاز رماة السهام (المحررين) بـ 55.
وعلى الرغم من أن الفارق ليس كبيرًا، إلا أن الخبراء تفوقوا نسبيًا، ويرفض “مالكيل” إرجاع ذلك لخبرة المحترفين، ولكنه يرجع ذلك إلى أن لديهم “ميزة نسبية” متمثلة في إعلان بعضهم أن هذا السهم سيرتفع بما يجعله يرتفع بالفعل بقوة دفع توقعاته وليس لاعتبارات أساسية.
وفي رأي “مالكيل” فإن التحليل الفني لا يصلح لأنه لا يظهر آثاره إلا بعد استقرار السوق ووضوح القيعان والقمم، وترفض هذه النظرية الحديث حول الاستفادة من الأحداث السابقة وقراءة المستقبل من خلال قراءة شكل المنحنى السابق وتعتبر أن هذا الأمر غير واقعي؛ بسبب اختلاف الظروف والتغيرات وتؤكد أن هذه القراءات تعزز التأكيدات حول العشوائية.
أما عن التحليل الأساسي فترفضه النظرية أيضًا، بسبب نقص المعلومات الكاملة المتاحة عن الشركة أولاً والقطاع الاقتصادي ثانيًا والاقتصاد بشكل عام ثالثًا، فضلاً عن عجز كثيرين عن قراءة البيانات والقوائم المالية بالشكل الملائم.
“ايجوين فاما” أستاذ الاقتصاد والشؤون المالية بجامعة شيكاغو قدم ورقة بحثية للجامعة اتفق فيها تمامًا مع “مالكيل” وأرجع سيادة قدر من العشوائية في الأسواق المالية إلى سلوك المتعاملين من جهة، فضلًا عن عدم قيام السلطات في أغلب البورصات بما يكفي لـ”لجم” بعض الممارسات التي تعزز العشوائية أو التلاعب أحيانًا.
ويرجح “فاما” في دراسته أن البعض يتصرفون بمنطق يشبه “المدمنين”؛ حيث إن قرابة 50% المتعاملين في السوق لم يسبق لهم تحقيق “ربح يذكر” في السوق ولكنهم مع ذلك يبقون فيه ويقبلون بخسارات ضئيلة ثم يخرجون من السوق ويرجعون إليه وهو ما يرجح وجود قدر من “الاعتمادية النفسية” على السوق.
والشاهد هنا أن دراسات عدة بينت تأثير الهرمونات التي يفرزها الجسم أثناء متابعة بيانات الأسهم من جانب المضاربين، والتي تؤدي لمشاعر متناقضة بين الفرح والتوتر والحزن والغضب، وكثير من هذه المشاعر والهرمونات تسبب شكلًا من أشكال الإدمان النفسي وفقًا لدراسات علم النفس.
وعلى الرغم من أن حديث “مالكيل” حول عشوائية السوق بالكامل تبدو مجحفة في ظل تمكن البعض من تحقيق أرباح لافتة من أسواق الأسهم بل بناء البعض لثروات كاملة من داخلها، إلا أن هناك بيانات تدعم توجهه كذلك.
ويشير “فاما” إلى أن قرابة 40- 60% من المتعاملين في الأسواق هم “هواة بالكامل” ويضاربون بـ”فوائض مالية” لديهم من أعمال أخرى وكثير منهم لا يهتم –حقًا- كثيرًا بالربح أو الخسارة بسبب اعتباره هذا الأمر كما لو كان “مغامرة” يخوضها.
فوفقًا لدراسة لجامعة “ستانفورد” عام 2014 فإن 36% من المتعاملين بالسوق يشترون ويبيعون الأسهم وفقًا لما “يشعرون به” ووفقًا لما “يسمعون” دون أن يعملوا بأنفسهم مطلقًا سواء في التحليل الفني أو الأساسي، هذا فضلًا عن عدم إلمام الكثير ممن يقومون بنوعي التحليل بأساسات كل منهما.
ويعكس هذا وجود قدر غير هين من العشوائية، ويعطي هؤلاء “ذوي الثقة” قدرة كبيرة على توجيه السوق من خلال الإيماء لهؤلاء باتجاه السوق أو باتجاه سهم معين بما يجعل أكثر من ثلث السوق يتبع هذا الاتجاه بلا دراسة مطلوبة، ويمنح هؤلاء “المؤثرين” ميزة نسبية كبيرة للغاية ولو في بعض الفترات.
وكشفت دراسة أخرى لمركز “بيو” أن حوالي 40% من المتعاملين في السوق يحاولون بالفعل إيجاد “شخص موثوق” أو كيان اعتباري كشركة استثمارية يحاولون تقفي أثرها بحيث يصبحون ما يعرف بـ”مستثمر الظل” أي ذلك الذي يسير في ظل آخر.
وهذه خطوة تدعم العشوائية في السوق أيضًا، لأن شيوع الأخبار عن حصول مستثمر على أسهم شركة غالبًا ما يكون بعد فترة من عملية الشراء، ويحدث هذا الأمر متأخرًا أيضًا مع بيع المستثمر لحيازاته، وبالتالي يصبح مستثمر الظل هنا متأخرًا في المرحلتين وهو ما يجعله إما رابحًا بدرجة أقل كثيرًا من المستثمر الأصلي أو حتى قد يخسر نتيجة لاختلاف التوقيتات.
وعلى ذلك فإن نسبة لا تتعدى 1.5% عادة من المستثمرين هي التي “تتفوق على السوق” أي تحقق أرباحًا تفوق السوق بكثير، بينما يحقق 7-9% أرباحًا مماثلة أو أقل من السوق ليحصد الباقي خسائر مما يؤكد مضار السلوك العشوائي للكثير من المتعاملين في السوق سواء عليهم أو حتى على اتجاه السوق بما يجعله في كثير من الأحيان فعلا “يصعب التنبؤ به”.